" التسامح ضرورة حضارية " هكذا كتبت في حسابي على تويتر بعد دقائق من إنهاء هذا الكتاب المميز بقلم الصحفي المصري سلامة موسى ، رغم شائبة قلة الاحترام للإسلام التي بدت من باب النصفة والموضوعية التي أرادها الكاتب أو بعض أثر الداروينية التي خالطت عقله وفهمه بعد مغادرة أوروبا إلى مصر وكتب في ذلك كتاباً أنتظر فرصة لقرائته .
بعيداً عن هذه الضجة وعلى امتداد قرابة مئتي صفحة من هذا الكتاب الذي أغرقه موسى في ذكر رجالات التحرر الفكري في العالم سيما من الرموز الغربية التي قضت حرقاً أو نصرت حقاً ، شعرت بضرورة التسامح الذي فاض ذكره بين جوانب السير الذاتية المقتضبة لمن نافح ودافع عن حق الإنسان في اختيار رأيه الديني والاجتماعي والفكري وشنع على كل السلاطين التي طغت وعمت ببلائها على الهيئات الاجتماعية والأمم البشرية .
ما كان للغرب أن يبلغ هذا المستوى من الحضارة ولا استطاع تحقيق النهوض الفكري والصناعي والاجتماعي لولا إصراره على التسامح بعد تجارب دامية وملاحم زهقت فيها الأرواح وعم الفساد في البر والبحر بما فعلت يد التعصب والتطرف .
( وكانت نتيجة هذا الخراب العظيم الذي نال أوربا أن الناس عرفوا قيمة التسامح لا حباً فيه ، بل خوفاً من عواقب التعصب ) ص ١٦٣ .
رأيت شبهاً كثيراً بين بعض ملامح وقسمات العصور الوسطى التي أظلمت فيها أوروبا وكانت قنطرة الخروج إلى زمن النهضة والحرية والقوة لهم ، وبين حالنا كأمة مسلمة وعربية اليوم .
نفس التشنج بين المحافظين والإصلاحيين ، بعض المشاهد القريبة من تفتيش النوايا واتهام الخبايا ، شيء من توافر شروط النهضة واستبصار الطريق تنتظر عزيمة سياسية والتحاماً اجتماعياً ، وبعض من لأواء التنافس الدامي بين الأطراف على تقديم حلولهم الخاصة والانتصار لرأيهم ورؤيتهم .
ولا أشك - على الأقل الآن - أن نهضتنا ستقوم على بعض مقومات الغرب من تحرر فكري واستقلال فردي ونصفة حقوقية واحترام متبادل وحكم شوري ديمقراطي ، ناهيك عن بعض المعاني المستبطنة التي تقوم عليها فلسفة النهضة من دين رشيد وضمان كرامة الإنسان وحفظ حقوق الأقليات والمستضعفين والانتصار لقيم العدالة والحرية والمساواة والاحتفاء بقيم الخير والحق والجمال .
بتاريخ ٩ / ٩ / ١٤٣٣ أتممت قراءة هذا الكتاب وقد حرمت نفسي خوض تحدي الكرة مع صديقي وائل إدريس الصحبي رغم وعدي له بذلك ، ولكن " جلالة الملك فولتير " كان أحب إليّ من مباراة وائل وأدعى لنكث العهد .
هذا التوتر الذي يعصف بالحالة السعودية يخرج أحياناً من مستواه الصحي إلى مرحلة مرضية ومستوى مسف أو موغل في المبالغة والضجيج ، ولكن لعل هذا مخاض يتولد منه ( فكر إصلاحي ) تنجبه إزعاجات الاستقطابات الطرفية وضرورة المرحلة وحاجة الزمن القادم .
فكر إصلاحي يتداوى من هواجس المحافظين ويعالج تكهناتهم القاتلة كما وأنه يكبح جماح الطموح الليبرالي الذي يدفع بالمجتمع السعودي إلى تنكب خصوصيته ومسخ جوهره وخسارة جهود التوحيد التي بدأت ترسخ جغرافية ومخيالاً .
فكر إصلاحي : شمولي - معتدل - متعافي - واقعي - أصيل - متحضر - وسطي - وكل المعاني المبهرة والقيم الفذّة التي يناط بها قوام الحضارة وأسس التقدم وشؤون التنمية اللازمة لكل مجتمع ودولة متحفزة لمستقبلها المشرق .
نواف القديمي الذي عرفته مسبقاً في ( أشواق الحرية ) وهو عبارة عن أفكار عميقة ومقاربات ذكية ونابهة للهوية السلفية والطموح الديموقراطي ، ثم في زحام الصخب الثقافي والفكري الذي يشارك فيها الهام والعام ، وليس آخرها ضجة ملتقى النهضة الذي يشارك في صناعته ناهيك عن منازلات عالم تويتر الذي يبدو أن طيره الأزرق يكاد يشرق بسجالات السعوديين المزعجين في كثير من الأحيان .
في يوم ٩ / ٩ / ١٤٣٣ أنهيت هذا الكتاب الجميل والمميز وهو مزيج من التجربة الشخصية والأفكار العامة التي يطرحها القديمي بلغته السهلة العذبة التي تزداد ألقاً كل مرة وكرة .
هذا الزمن الذي تمر به الأمة العربية والمسلمة اليوم حاسم وصعب ، والبلاد السعودية جزء من هذه الأمة تشبهها في أوجاعها وطموحاتها .
وهذا الزمن نفسه في حاجة إلى رجال من أمثال الراحل غازي بن عبد الرحمن القصيبي الذي كسفت برحيله شمس النزاهة والعدالة والكفاءة والإنجاز .
رجل نادر لا يولد مرتين ، وليس حمل يشبهه في القابلين والسالفين ، ولا أعرف لماذا أتذكر بعض أسماء من استوزر لخلفاء المسلمين ممن برع في الإدارة والأدب فجمع حزم الوزارة ولين الثقافة .
تركي الدخيل الإعلامي الذي يعجبني كثيراً بحكم تخصصي في دراسة وتعشق هذا المجال ، هذا الدخيل لم يجعل له فضيلة الكتابة عن هذا الرمز السعودي لوحده بل اقتبس أبرز ما كتبه مرافقيه ومريديه وأشقائه وأصدقائه التي اقتبسها فيما يبدو من مقالات دونت في لحظة وفاته .
ليس الكتاب الوحيد الذي قرأته حول فن القراءة وتصحيح عاداتها وتوضيح مآلاتها وتقريب أفضل طرائقها ، وليس في الكتاب جديد يذكر أو يزيد على غيره من الكتب المطنوزة بوصايا السرعة والتدوين والتركيز والنقاش وإحسان الاختيار وظروف القراءة الرشيدة ومناطات تحقيق النتائج الحميدة .
غير أن الأستاذ فهد الحمود كاتب هذه الورقات أحسن كثيراً في التبويب ووسمه بفواصل مضيئة ومواقف وضيئة من بعض تاريخنا الإسلامي الذي احتفى كثيراً واحتفل بهذه الممارسة الإنسانية النبيلة كمطلب لبناء الإنسان والأمة واستبقاء تاريخ مشرف يكون فخراً عند الفترة وسنداً عن النهضة .
محمد عمارة كتب هذا الكتاب وجمع الشخصيات التي اعتقد أن لها تاريخاً استحق أن يذكر ، لا يوجد في الكتاب نزر ممن اشتهروا في التاريخ الإسلامي أمثال ابن تيمية والعز بن عبد السلام والحسن البصري والجويني سيما وهم أرباب وأصحاب المذهب الأعم من أهل السنة والجماعة .
عمارة وكعادته في تجاوزه للخلافات المتشنجة تجاه بعض الفرق الكلامية والمذاهب السياسية التي اعتبرت في رأي السلفيين خارجة عن دائرة السنة والجماعة ، اختار بعض رجالات الفكر الديني وتضحياتهم وسيرة حياتهم العلمية والحياتية مثل الجهم بن صفوان وعمرو بن عبيد ونافع بن الأزرق والجعد بن درهم ودواليك .
بالنسبة لي وأترابي ممن تشرب مذهباً إسلامياً سنياً سلفياً حنبلياً وهابياً ، بكل هذه التتابعات الفكرية والمدرسية غريب على سمعه رجالات وأعيان الثورات العلوية والحسينية ممن انتفضوا ضد مظالم الخلافات الإسلامية وانتصروا لحق آل البيت في الإمامة دون تهاون في التزود العلمي والمتانة الشرعية .
وإذا لم يكن للواحد منا ثمة قراءات خارج إطار المنهج المدرسي وإلا سيبقى الجهل بأمثال هؤلاء حاضراً ومستديماً .
محمد بن الحنفية وزيد بن علي والنفس الزكية ويحيى بن الحسين والشريف الرضي ، ممن برع في الفقه والسنن والأدب وامتشق سلاح الثورة وانتفض لما رآه حقاً في جناب عترة المصطفى رغم بعض التجاوزات الشرعية التي انتهى إليها أنصارهم وأتباعهم - حسب قناعتي على الأقل - .
وهكذا يعج تاريخنا بالأسماء الضخمة والمآثر الفخمة ، ثم لا أرى معنى لمن يسخر بنا لأننا نفخر بديننا هذا وتاريخه التليد .
أتذكر من سلامة موسى دعوته الفجة باستعمال العامية في الصحف والكتب والمدارس والمكاتبات الإدارية ، وهو مصري مسيحي عاش في فترة ناهضة مرت بأم الدنيا " مصر " وحفلت بكثرة من الأدباء والعظماء والفكهاء .
ولأنني وللمرة الأولى أقرأ لسلامة موسى الصحفي المصري الشهير ، فإنني أقرأ له بالتذاذ كبير ذلك لأنني أتنسم هواء تلك الحقبة المصرية الثرية يكب حمولاتها الفكرية وحركتها الموارة ونبعها المتدفق بالمعرفة والعلم والبيان .
وعجيب هذا الكتاب في أفكاره الذي عبرت بحق عن فن الحب والحياة ، ستطالع ما يشبه الوصايا والحكايا والأفكار والأنوار التي تساعد في ترغيد العيش وتجويد الحياة وبث الطمأنينة والاستقرار في النفوس والبيوت والمجتمعات .
سلامة موسى يتكشف في هذا الكتاب عن خبير اجتماعي متعمق ، وإحساس فنان مرهف ، وقلم أديب متمكن ، كما أنه يكشف عن إمكانات تلك الحقبة الزمنية في فن الحب والحياة كأعمق معاني الإنسان وأعظم مطلوباته ومحبوباته .
الكتاب ممتع ورائع ولا يمل ، حتى لتمنيت أنه لم ينتهي عند مجرد صفحاته المحكومة وورقاته المرسومة .
مؤلم ما حصل لكاتب هذا المؤلف ، الكاتب المصري فرج فودة الذي اغتيل بيد رجل أمي لا يحسن القراءة والكتابة وأطلق رصاصته منتقماً للشريعة السمحة من كتاباته الجريئة واتهاماته الوضيعة .
في هذا الكتاب الذي كتب بلغة صحفية بسيطة تقتات على الأحداث السياسية والجنائية العامة في الشارع المصري في أثناء موجة الإرهاب التي هاجت به وماجت حتى كادت تهلك الحرث والنسل .
فرج فودة الذي أقرأ له للمرة الأولى في هذا الكتاب يملك قدرة مميزة على ربط الأفكار ببعضها وتسلسلها بطريقة عقلانية وموضوعية ، كما أنه يحلل بواعث هذا الداء الرايدكالي العضال ويدرس
ظروفه وحيثياته بمستوى قليل من الدقة والأدوات الأكاديمية .
جرأة عجيبة تدعمها قناعة بأفكاره تشبه رسوخ إيمان العجائز يكتلكها فرج فودة ربما كانت السبب وراء جناية قتله ، إذ ربما بث هذه الأفكار الصادمة في زمن كان الوعي الجمعي لا يقوى على استيعابها والاقتناع بها ، وأثار فيه رجة وضجة كان من أثرها مقتله الحزين .
لم أعلق كثيراً على أفكار الكتاب التي تعتبر عادية وقديمة بالنسبة إلى جيلي الذي عاش موجة الإرهاب في نسخته السعودية ووقف على ما يكفي من التحليل والكشف والتجلية الكافية لهذه الظاهرة السلبية والذي تجاوزناها بسلام ومع قليل من الآثام .
جلال أمين رجل اقتصادي ويحمل الدكتوراه في هذا التخصص الهام في بناء الأمة والممجموج في ذوق المتخففين ، ولكنه كاتب مميز سيما في سرد الملامح الاجتماعية في طريقة تشبه الحكواتية العفوية حتى لا تكاد تشعر بتعداد الصفحة أو الإبعاد في السطور .
لعله والده أحمد أمين المعروف في تاريخه كمؤلف وكاتب أكسبه هذهىالمهارة الأدبية الراقية الذي اكتشفها صاحبه مؤخراً عندما رأى قدرته على الإنشاء في أمر الامة والانعتاق من التحبير في فنه المخصوص وطرفه المقصوص .
هنا سيرة ذاتية لهذا الرجل الفذ ، ولن تشعر برتابة الحديث عن تفاصيله الشخصية لشدة تماسها بين الأحداث العامة التي عصفت بالعالم العربي وقلبه النابض " مصر " ، وإنك لتتنقل بين الشارع المصري والعربي العام وأروقة منزله الخاص وتنتقل بالطائرة والمركبة الصغيرة في كاليفورنيا والقاهرة والكويت والجامعة الأمريكية والصندوق الكويتي للتنمية ومع أساتذته المشرفين على رسالاته العلمية .
معجب أنا كثيراً بجلال أمين هذا ، وأنا أعد نفسي بلذة القراءة في " رحيق العمر " الذي اقتنيته قبل دقائق وأنوي أن أعيش معه ليلة رمضانية جميلة من هذا العام البهيج ١٤٣٣ .
سمعت مرة في برنامج إضاءات المحامي السعودي محمد الحميد يقول عن قاسم أمين أنه ظلم من قارئيه كثيراً ، مجموعة الكسالى الذين اكتفوا بطالع السمعة السيئة لهذا الرجل الإصلاحي دون الدراية الكافية بنتاجه وأطروحاته .
محمد عمارة جعل قاسم أمين رائداً من رواد المدرسة الإصلاحية التي تجمع محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا ودواليك من معالم المشروع النهضوي الحضاري الحديث .
كتاب " المصريون " لقاسم أمين الذي كتبه ابتداءاً سمعت به للمرة الأولى عبر هذا المؤلف ويبدو أنه انطمر في عمق الضجيج الصاخب عن قاسم أمين ، كتاب المصريون الذي يحمل فكراً مختلفاً عن ما عرف عن أمين إذ اختلف خطابه فقط عندما استرعى سمع الداخل .
ما بلغ قناعتي منذ فترة يسيرة أن قاسم أمين رائد إصلاحي شذ في بعض آراءه بما يسيء إلى الموروث الشرعي وهو خطيئة مغفورة ، أما ما كان من آراءه سيفاً مصلتاً على التقليد الاجتماعي فهو شجاعة مشكورة وخطوة مبرورة .
لم يكن مصطفى محمود في هذا الكتاب القصير إلا كعادته من العبقرية في صياغة الفكرة المقصودة في العبارة المرصودة والجملة المنضودة والحكمة المعقودة ، مجموعة مقالات لها مناسباتها الوقتية المتفرقة غير أن فقيه العلم والإيمان يكتبها وهو يحلق في فضاء الأفكار العظيمة التي لا تكوت بتقادم الزمن ولا بتعاقب السنون .
اختار عنوان المقالة الأولى للمؤلف بعمومه ثم انتثرت عناوين شتى وفروع تترى في معاني متباينة وحدود متلاينة .
والكتاب بمقالاته القليلة وحكمه الجليلة لا يكف يواصل مسيرة مصطفى محمود لحل لغز الحياة عبر صورة من الموجودات ( النفس والروح ، الظاهر والباطن ، الصوفي والبحر ، المخير والمسير ) يرتحل بالأفكار والأذهان والتصورات والمعتقدات لتقريب الفهم واستجلاء الحقائق .
( من أنت ؟ ، لماذا خلقنا الله ؟ ) هكذا تهزك الأسئلة العميقة كعناوين لبعض مقالات الكتاب ولن تقف رعشة القلب ولا شخوص البصر وهو يتتبع التفاصيل المحمّلة بالثراء والمتانة المعرفية والحسية .
اشعر بحيوية الكون والإنسان والقرآن في مثل هذا الكتاب .
علي الوردي عجيب وغريب ، فأما عجيب فهو لعمق أفكاره وعذوبة أغواره شجاع إلى درجة يبث فيها آراءه دون هوادة وينظمها عقداً ناصع الدر والقلادة ، وأما غريب فهو كذلك لشدة بأسه وندرة جرسه فيما يطرح من آراء دون الشذوذ وفوق العادية .
وهنا يتعرض لواحد من أكثر مواهب العرب وأكثرها بروزاً ووضوحاً حتى اختار الله أن تكون معجزة النبي العربي فيما اشتهروا بإجادته وذاعوا بالنبوغ فيه ، اللغة العربية والصياغة الأدبية والبلاغة النثرية والفرادة الشعرية .
الوردي يقسو على التاريخ الأدبي العربي سيما في شعر الشعراء ومطارحات البلغاء ، ويتهمه بالمصلحية والشذوذ الجنسي ومداهنة السلاطين ناهيك عن عيب العربية في الانصراف عن الإيجاز والموضوعية والاتكاء على المبالغة وتعقيد الصياغة وتعجيز الحياكة .
الكتاب عبارة عن مطارحات في مقالات بين الوردي ومجموعة من المختصين في الشعر العربي تاريخاً وفناً وأداة ، بثت في الصحف العراقية آنذاك وجمعت في هذا المؤلف الشيق الذي تلمح فيه علاقة الشعر والأدب العربي بعمومه بعلم الاجتماع الإنساني الذي يعدّ ميدان الوردي الأساس وهو منه ناصية الرأس .